فصل: تفسير الآية رقم (31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (31):

{فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} قال مجاهد: بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم حفر فدفنه. وكان ابن أدم هذا أول من قتل.
وقيل: إن الغراب بحث الأرض على طعمه ليخفيه إلى وقت الحاجة إليه، لأنه من عادة الغراب فعل ذلك، فتنبه قابيل ذلك على مواراة أخيه. وروي أن قابيل لما قتل هابيل جعله في جراب، ومشى به يحمله في عنقه مائة سنة، قاله مجاهد.
وروى ابن القاسم عن مالك أنه حمله سنة واحدة، وقاله ابن عباس.
وقيل: حتى أروح ولا يدري ما يصنع به إلى أن اقتدى بالغراب كما تقدم.
وفي الخبر عن أنس قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «امتن الله على ابن آدم بثلاث بعد ثلاث بالريح بعد الروح فلولا أن الريح يقع بعد الروح ما دفن حميم حميما وبالدود في الجثة فلولا أن الدود يقع في الجثة لاكتنزتها الملوك وكانت خيرا لهم من الدراهم والدنانير وبالموت بعد الكبر وإن الرجل ليكبر حتى يمل نفسه ويمله أهله وولده وأقرباؤه فكان الموت أستر له».
وقال قوم: كان قابيل يعلم الدفن، ولكن ترك أخاه بالعراء استخفافا به، فبعث الله غرابا يبحث التراب على هابيل ليدفنه، فقال عند ذلك: {يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} حيث رأى إكرام الله لهابيل بأن قيض له الغراب حتى واراه، ولم يكن ذلك ندم توبة، وقيل: إنما ندمه كان على فقده لا على قتله، وإن كان فلم يكن موفيا شروطه. أو ندم ولم يستمر ندمه، فقال ابن عباس: ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه. ويقال: إن آدم وحواء أتيا قبره وبكيا أياما عليه. ثم إن قابيل كان على ذروة جبل فنطحه ثور فوقع إلى السفح وقد تفرقت عروقه. ويقال: دعا عليه آدم فانخسفت به الأرض. ويقال: إن قابيل استوحش بعد قتل هابيل ولزم البرية، وكان لا يقدر على ما يأكله إلا من الوحش، فكان إذا ظفر به وقذه حتى يموت ثم يأكله. قال ابن عباس: فكانت الموقوذة حراما من لدن قابيل بن آدم، وهو أول من يساق من الآدميين إلى النار، وذلك قوله تعالى: {رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [فصلت: 29] الآية فإبليس رأس الكافرين من الجن، وقابيل رأس الخطيئة من الانس، على ما يأتي بيانه في حم فصلت إن شاء الله تعالى. وقد قيل: إن الندم في ذلك الوقت لم يكن توبة، والله بكل ذلك أعلم وأحكم. وظاهر الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم، ولذلك جهلت سنة المواراة، وكذلك حكى الطبري عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بما في كتب الأوائل. وقوله: {يَبْحَثُ} معناه يفتش التراب بمنقاره ويثيره. ومن هذا سميت سورة براءة البحوث، لأنها فتشت عن المنافقين، ومن ذلك قول الشاعر:
إن الناس غطوني تغطيت عنهم ** وإن بحثوني كان فيهم مباحث

وفي المثل: لا تكن كالباحث على الشفرة، قال الشاعر:
فكانت كعنز السوء قامت برجلها ** إلى مدية مدفونة تستثيرها

الثانية: بعث الله الغراب حكمة، ليرى ابن آدم كيفية المواراة، وهو معنى قوله تعالى: {ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] فصار فعل الغراب في المواراة سنة باقية في الخلق، فرضا على جميع الناس على الكفاية، من فعله منهم سقط فرضه عن الباقين. وأخص الناس به الأقربون الذين يلونه، ثم الجيرة، ثم سائر المسلمين. وأما الكفار فقد روى أبو داود عن علي قال: قلت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: «أذهب فوار أباك التراب ثم لا تحدثن شيئا حتى تأتيني» فذهبت فواريته وجئته فأمرني فاغتسلت ودعا لي.
الثالثة: ويستحب في القبر سعته وإحسانه، لما رواه ابن ماجه عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احفروا وأوسعوا وأحسنوا». وروي عن الأدرع السلمي قال: جئت ليلة أحرس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا رجل قراءته عالية، فخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله: هذا مراء، قال: فمات بالمدينة ففرغوا من جهازه فحملوا نعشه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارفقوا به رفق الله به إنه كان يحب الله ورسوله». قال: وحضر حفرته فقال: «أوسعوا له وسع الله عليه» فقال بعض أصحابه: يا رسول الله لقد حزنت عليه؟ فقال: «أجل إنه كان يحب الله ورسوله»، أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن زيد بن الحباب عن موسى بن عبيدة عن سعيد بن أبي سعيد.
قال أبو عمر بن عبد البر: أدرع السلمي روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثا واحدا، وروى عنه سعيد بن أبي سعيد المقبري، و؟؟ هشام بن عامر بن أمية بن الحسحاس بن عامر ابن غنم بن عدي بن النجار الأنصاري، كان يسمى في الجاهلية شهابا فغير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسمه فسماه هشاما، واستشهد أبوه عامر يوم أحد. سكن هشام البصرة ومات بها، ذكر هذا في كتاب الصحابة.
الرابعة: ثم قيل: اللحد أفضل من الشق، فإنه الذي اختاره الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما توفي كان بالمدينة رجلان أحدهما يلحد والآخر لا يلحد، فقالوا: أيهما جاء أول عمل عمله، فجاء الذي يلحد فلحد لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكره مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه، وأخرجه ابن ماجه عن أنس بن مالك وعائشة رضي الله عنهما. والرجلان هما أبو طلحة وأبو عبيدة، وكان أبو طلحة يلحد وأبو عبيدة يشق. واللحد هو أن يحفر في جانب القبر إن كانت تربة صلبة، يوضع فيه الميت ثم يوضع عليه اللبن ثم يهال التراب، قال سعد بن أبي وقاص في مرضه الذي هلك فيه: ألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى اله عليه وسلم. أخرجه مسلم.
وروى ابن ماجه وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللحد لنا والشق لغيرنا».
الخامسة: روى ابن ماجه عن سعيد بن المسيب قال: حضرت ابن عمر في جنازة فلما وضعها في اللحد قال: بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أخذ في تسوية اللبن على اللحد قال: اللهم أجرها من الشيطان ومن عذاب القبر، اللهم جاف الأرض عن جنبيها، وصعد روحها ولقها منك رضوانا. قلت يا ابن عمر أشيء سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم قلته برأيك؟ قال: إني إذا لقادر على القول! بل شيء سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثا عليه من قبل رأسه ثلاثا. فهذا ما تعلق في معنى الآية من الأحكام. والأصل في: {يا وَيْلَتى} يا ويلتي ثم أبدل من الياء ألف. وقرأ الحسن على الأصل بالياء، والأول أفصح، لأن حذف الياء في النداء أكثر. وهي كلمة تدعو بها العرب عند الهلاك، قال سيبويه.
وقال الأصمعي: ويل بعد. وقرأ الحسن: {أعجزت} بكسر الجيم. قال النحاس: وهي لغة شاذة، إنما يقال عجزت المرأة إذا عظمت عجيزتها، وعجزت عن الشيء عجزا ومعجزة ومعجزة. والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (32):

{مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)}
قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذلِكَ} أي من جراء ذلك القاتل وجريرته.
وقال الزجاج: أي من جنايته، يقال: أجل الرجل على أهله شرا يأجل أجلا إذا جنى، مثل أخذ يأخذ أخذ. قال الخنوت:
وأهل خباء صالح كنت بينهم ** قد احتربوا في عاجل أنا آجله

أي جانيه، وقيل: أنا جاره عليهم.
وقال عدي بن زيد:
أجل أن الله قد فضلكم ** فوق من أحكا صلبا بإزار

وأصله الجر، ومنه الأجل لأنه وقت يجر إليه العقد الأول. ومنه الآجل نقيض العاجل، وهو بمعنى يجر إليه أمر متقدم. ومنه أجل بمعنى نعم. لأنه انقياد إلى ما جر إليه. ومنه الأجل للقطيع من بقر الوحش، لأن بعضه ينجر إلى بعض، قاله الرماني. وقرأ يزيد بن القعقاع أبو جعفر: {من أجل ذلك} بكسر النون وحذف الهمزة وهي لغة، والأصل {مِنْ أَجْلِ ذلِكَ} فألقيت كسرة الهمزة على النون وحذفت الهمزة. ثم قيل: يجوز أن يكون قوله: {مِنْ أَجْلِ ذلِكَ} متعلقا بقوله: {مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31]، فالوقف على قوله: {مِنْ أَجْلِ ذلِكَ}. ويجوز أن يكون متعلقا بما بعده وهو {كَتَبْنا}. ف {مِنْ أَجْلِ} ابتداء كلام والتمام {مِنَ النَّادِمِينَ}، وعلى هذا أكثر الناس، أي من سبب هذه النازلة كتبنا. وخص بني إسرائيل بالذكر- وقد تقدمتهم أمم قبلهم كان قتل النفس فيهم محظورا- لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس مكتوبا، وكان قبل ذلك قولا مطلقا، فغلظ الامر على بني إسرائيل بالكتاب بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء. ومعنى: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي بغير أن يقتل نفسا فيستحق القتل. وقد حرم الله القتل في جميع الشرائع إلا بثلاث خصال: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس ظلما وتعديا. {أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ} أي شرك، وقيل: قطع طريق. وقرأ الحسن- {أو فسادا} بالنصب على تقدير حذف فعل يدل عليه أول الكلام تقديره، أو أحدث فسادا، والدليل عليه قوله: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} لأنه من أعظم الفساد. وقرأ العامة- {فَسادٍ} بالجر على معنى أو بغير فساد. {فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} اضطرب لفظ المفسرين في ترتيب هذا التشبيه لأجل أن عقاب من قتل الناس جميعا أكثر من عقاب من قتل واحدا، فروي عن ابن عباس أنه قال: المعنى من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياه بأن شد عضده ونصره فكأنما أحيا الناس جميعا. وعنه أيضا أنه قال: المعنى من قتل نفسا واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعا، ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها واستحياها خوفا من الله فهو كمن أحيا الناس جميعا. وعنه أيضا. المعنى فكأنما قتل الناس جميعا عند المقتول، ومن أحياها واستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقذ.
وقال مجاهد: المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما، يقول: لو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك، ومن لم يقتل فقد حيي الناس منه.
وقال ابن زيد: المعنى أن من قتل نفسا فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من قتل الناس جميعا، قال: ومن أحياها أي من عفا عمن وجب له قتله، وقاله الحسن أيضا، أي هو العفو بعد المقدرة.
وقيل: المعنى أن من قتل نفسا فالمؤمنون كلهم خصماؤه، لأنه قد وتر الجميع، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، أي يجب على الكل شكره.
وقيل: جعل إثم قاتل الواحد إثم قاتل الجميع، وله أن يحكم بما يريد.
وقيل: كان هذا مختصا ببني إسرائيل تغليظا عليهم. قال ابن عطية: وعلى الجملة فالتشبيه على ما قيل واقع كله، والمنتهك في واحد ملحوظ بعين منتهك الجميع، ومثاله رجلان حلفا على شجرتين ألا يطعما من ثمرهما شيئا، فطعم أحدهما واحدة من ثمر شجرته، وطعم الآخر ثمر شجرته كلها، فقد استويا في الحنث.
وقيل: المعنى أن من استحل واحدا فقد استحل الجميع، لأنه أنكر الشرع.
وفي قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْياها} تجوز، فإنه عبارة عن الترك والإنقاذ من هلكة، وإلا فالاحياء حقيقة- الذي هو الاختراع- إنما هو لله تعالى. وإنما هذا الأحياء بمنزلة قول نمروذ اللعين: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] فسمى الترك إحياء. ثم أخبر الله عن بني إسرائيل أنهم جاءتهم الرسل بالبينات، وأن أكثرهم مجاوزون الحد، وتاركون أمر الله.

.تفسير الآيات (33- 34):

{إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)}
فيه خمس عشرة مسألة الأولى: اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية، فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في العرنيين، روى الأئمة واللفظ لابي داود عن أنس بن مالك: أن قوما من عكل- أو قال من عرينة- قدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاجتووا المدينة، فأمر لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستاقوا النعم، فبلغ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم، فلما ارتفع النهار حتى جئ بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون. قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله.
وفي رواية: فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم، وفي رواية: فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طلبهم قافة فأتي بهم قال: فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً} الآية.
وفي رواية قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا.
وفي البخاري قال جرير بن عبد الله في حديثه: فبعثني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نفر من المسلمين حتى أدركناهم وقد أشرفوا على بلادهم، فجئنا بهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال جرير: فكانوا يقولون الماء، ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النار». وقد حكى أهل التواريخ والسير: أنهم قطعوا يدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات، وأدخل المدينة ميتا. وكان اسمه يسار وكان نوبيا. وكان هذا الفعل من المرتدين سنة ست من الهجرة.
وفي بعض الروايات عن أنس: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم. وروي عن ابن عباس والضحاك: أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض.
وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس قال: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} نزلت هذه الآية في المشركين فمن أخذ منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه. وممن قال: إن الآية نزلت في المشركين عكرمة والحسن، وهذا ضعيف يرده قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وقوله عليه الصلاة والسلام: «الإسلام يهدم ما قبله» أخرجه مسلم، والصحيح الأول لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك.
وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد. قال ابن المنذر: قول مالك صحيح، وقال أبو ثور محتجا لهذا القول: وفي الآية دليل على أنها نزلت في غير أهل الشرك، وهو قوله جل ثناؤه: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم، فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام.
وحكى الطبري عن بعض أهل العلم: أن هذه الآية نسخت فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العرنيين، فوقف الامر على هذه الحدود.
وروى محمد بن سيرين قال: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، يعني حديث أنس، ذكره أبو داود.
وقال قوم منهم الليث بن سعد: ما فعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوفد عرينة نسخ، إذ لا يجوز التمثيل بالمرتد. قال أبو الزناد: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله عز وجل في ذلك، فأنزل الله تعالى في ذلك {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} الآية. أخرجه أبو داود. قال أبو الزناد: فلما وعظ ونهي عن المثلة لم يعد. وحكي عن جماعة أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل، لأن ذلك وقع في مرتدين، لا سيما وقد ثبت في صحيح مسلم وكتاب النسائي وغيرهما قال: إنما سمل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة، فكان هذا قصاصا، وهذه الآية في المحارب المؤمن.
قلت: وهذا قول حسن، وهو معنى ما ذهب إليه مالك والشافعي، ولذلك قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} ومعلوم أن الكفار لا تختلف أحكامهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقط قبل القدرة. والمرتد يستحق القتل بنفس الردة- دون المحاربة- ولا ينفى ولا تقطع يده ولا رجله ولا يخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم، ولا يصلب أيضا، فدل أن ما اشتملت عليه الآية ما عني به المرتد.
وقال تعالى في حق الكفار: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
وقال في المحاربين: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا} الآية، وهذا بين. وعلى ما قررناه في أول الباب لا إشكال ولا لوم ولا عتاب إذ هو مقتضى الكتاب، قال الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فمثلوا فمثل بهم، إلا أنه يحتمل أن يكون العتاب إن صح على الزيادة في القتل، وذلك تكحيلهم بمسامير محماة وتركهم عطاشى حتى ماتوا، والله أعلم.
وحكى الطبري عن السدي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمل أعين العرنيين وإنما أراد ذلك، فنزلت الآية ناهية عن ذلك، وهذا ضعيف جدا، فإن الاخبار الثابتة وردت بالسمل، وفي صحيح البخاري: فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم. ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود.
وفي قوله تعالى: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} استعارة ومجاز، إذ الله سبحانه وتعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال، ولما وجب له من التنزيه عن الأضداد والأنداد. والمعنى: يحاربون أولياء الله، فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارا لاذايتهم، كما عبر بنفسه عن الفقراء الضعفاء في قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] حثا على الاستعطاف عليهم، ومثله في صحيح السنة: «استطعمتك فلم تطعمني». الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم في البقرة.
الثانية: واختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة، فقال مالك: المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذحل ولا عداوة، قال ابن المنذر: اختلف عن مالك في هذه المسألة، فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة، وقالت طائفة: حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة، وهذا قول الشافعي وأبي ثور، قال ابن المنذر: كذلك هو لان كلا يقع عليه اسم المحاربة، والكتاب على العموم، وليس لاحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة. وقالت طائفة: لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجا عن المصر، هذا قول سفيان الثوري وإسحاق والنعمان. والمغتال كالمحارب وهو الذي يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله، وإن لم يشهر السلاح لكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر فأطعمه سما فقتله فيقتل حدا لا قودا.
الثالثة: واختلفوا في حكم المحارب، فقالت طائفة: يقام عليه بقدر فعله، فمن أخاف السبيل واخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، وإن أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله ثم صلب، فإذا قتل ولم يأخذ المال قتل، وإن هو لم يأخذ المال ولم يقتل نفي، قاله ابن عباس، وروي عن أبي مجلز والنخعي وعطاء الخراساني وغيرهم.
وقال أبو يوسف: إذا أخذ المال وقتل صلب وقتل على الخشبة، قال الليث: بالحربة مصلوبا.
وقال أبو حنيفة: إذا قتل قتل، وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه، إن شاء قطع يده ورجله وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه، قال أبو يوسف: القتل يأتي على كل شي. ونحوه قول الأوزاعي.
وقال الشافعي: إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي، لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة، وإذا قتل قتل، وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب، وروي عنه أنه قال: يصلب ثلاثة أيام، قال: وإن حضر وكثر وهيب وكان ردءا للعدو حبس.
وقال أحمد: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعي.
وقال قوم: لا ينبغي أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب، وحكي عن الشافعي: أكره أن يقتل مصلوبا لنهي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المثلة.
وقال أبو ثور: الامام مخير على ظاهر الآية، وكذلك قال مالك، وهو مروي عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد والضحاك والنخعي كلهم قال: الامام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب أو القطع أو النفي بظاهر الآية، قال ابن عباس: ما كان في القرآن أَوْ فصاحبه بالخيار، وهذا القول أشعر بظاهر الآية، فإن أهل القول الأول الذين قالوا إن أو للترتيب- وإن اختلفوا- فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون عليه حدين فيقولون: يقتل ويصلب، ويقول بعضهم: يصلب ويقتل، ويقول بعضهم: تقطع يده ورجله وينفى، وليس كذلك الآية ولا معنى أو في اللغة، قال النحاس. واحتج الأولون بما ذكره الطبري عن أنس بن مالك أنه قال: سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل عليه السلام عن الحكم في المحارب فقال: «من أخاف السبيل واخذ المال فأقطع به للأخذ ورجله للاخافة ومن قتل فاقتله ومن جمع ذلك فأصلبه». قال ابن عطية: وبقي النفي للمخيف فقط والمخيف في حكم القاتل، ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العذاب ووالعقاب استحسانا.
الرابعة: قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} اختلف في معناه، فقال السدي: هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله، أو يخرج من دار الإسلام هربا ممن يطلبه، عن ابن عباس وأنس بن مالك ومالك بن أنس والحسن والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري. حكاه الرماني في كتابه، وحكي عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد، ويطلبون لتقام عليهم الحدود، وقاله الليث بن سعد والزهري أيضا.
وقال مالك أيضا: ينفى من البلد الذي أحدث فيه هذا إلى غيره ويحبس فيه كالزاني. وقال مالك أيضا والكوفيون: نفيهم سجنهم فينفي من سعة الدنيا إلى ضيقها، فصار كأنه إذا سجن فقد نفي من الأرض إلا من موضع استقراره، واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ** فلسنا من الأموات فيها ولا الأحياء

إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ** عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

حكى مكحول أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون وقال: أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم، والظاهر أن الأرض في الآية هي أرض النازلة وقد تجنب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب، ومنه الحديث: «الذي ناء بصدره ونحو الأرض المقدسة». وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة أو إفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه، وإن كان غير مخوف الجانب فظن أنه لا يعود إلى جناية سرح، فال ابن عطية: وهذا صريح مذهب مالك أن يغرب ويسجن حيث يغرب، وهذا على الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبري وهو الواضح، لأن نفيه من أرض النازلة هو نص الآية، وسجنه بعد بحسب الخوف منه، فإن تاب وفهمت حاله سرح.
الخامسة: قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} النفي أصله الإهلاك، ومنه الإثبات والنفي، فالنفي الإهلاك بالاعدام، ومنه النفاية لردئ المتاع، ومنه النفي لما تطاير من الماء عن الدلو. قال الراجز:
كأن متنيه من النفي ** مواقع الطير على الصفي

السادسة: قال ابن خويز منداد: ولا يراعى المال الذي يأخذه المحارب نصابا كما يراعى في السارق. وقد قيل: يراعى في ذلك النصاب ربع دينار، قال ابن العربي قال الشافعي وأصحاب الرأي: لا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قدر ما تقطع فيه يد السارق، وقال مالك: يحكم عليه بحكم المحارب وهو الصحيح، فإن الله تعالى وقت على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام القطع في السرقة في ربع دينار، ولم يوقت في الحرابة شيئا، بل ذكر جزاء المحارب، فاقتضى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حبة، ثم إن هذا قياس أصل على أصل وهو مختلف فيه، وقياس الأعلى بالأدنى والأدنى بالأسفل وذلك عكس القياس. وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق وهو يطلب خطف المال فإن شعر به فر، حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن منع منه أو صبح عليه وحارب عليه فهو محارب يحكم عليه بحكم المحارب. قال القاضي ابن العربي: كنت في أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق، وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم، وأصحابه يأخذون مال الرجل، حكمت فيهم بحكم المحاربين، فافهموا هذا من أصل الدين، وارتفعوا إلى يفاع العلم عن حضيض الجاهلين.
قلت: اليفع أعلى الجبل ومنه غلام يفعة إذا ارتفع إلى البلوغ، والحضيض الحفرة في أسفل الوادي، كذا قال أهل اللغة.
السابعة: ولا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل، وللشافعي قولان: أحدهما- أنها تعتبر المكافأة لأنه قتل فاعتبر فيه المكافأة كالقصاص، وهذا ضعيف، لأن القتل هنا ليس على مجرد القتل وإنما هو على الفساد العام من التخويف وسلب المال، قال الله تعالى: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا} فأمر تعالى بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع شيئين محاربة وسعيا في الأرض بالفساد، ولم يخص شريفا من وضيع، ولا رفيعا من دنئ.
الثامنة: وإذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقتل بعض المحاربين ولم يقتل بعض قتل الجميع.
وقال الشافعي: لا يقتل إلا من قتل، وهذا أيضا ضعيف، فإن من حضر الوقيعة شركاء في الغنيمة وإن لم يقتل جميعهم، وقد اتفق معنا على قتل الردء وهو الطليعة، فالمحارب أولى.
التاسعة: وإذا أخاف المحاربون السبيل وقطعوا الطريق وجب على الامام قتالهم من غير أن يدعوهم، ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم وكفهم عن أذى المسلمين، فإن انهزموا لم يتبع منهم مدبرا إلا أن يكون قد قتل واخذ مالا، فإن كان كذلك أتبع ليؤخذ ويقام عليه ما وجب لجنايته، ولا يدفف منهم على جريح إلا أن يكون قد قتل، فإن أخذوا ووجد في أيديهم مال لاحد بعينه رد إليه أو إلى ورثته، وإن لم يوجد له صاحب جعل في بيت المال، وما أتلفوه من مال لاحد غرموه، ولا دية لمن قتلوا إذا قدر عليهم قبل التوبة، فإن تابوا وجاءوا تائبين وهي: العاشرة: لم يكن للإمام عليهم سبيل، وسقط عنهم ما كان حدا لله وأخذوا بحقوق الآدميين، فاقتص منهم من النفس والجراح، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم لأوليائه في ذلك، ويجوز لهم العفو والهبة كسائر الجناة من غير المحاربين، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي. وإنما أخذ ما بأيديهم من الأموال وضمنوا قيمه ما استهلكوا، لأن ذلك غصب فلا يجوز ملكه لهم، ويصرف إلى أربابه أو يوقفه الامام عنده حتى يعلم صاحبه.
وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده، وأما ما استهلكه فلا يطلب به، وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه، وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محاربا ثم تاب قبل القدرة عليه، فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتابا منشورا، قال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد ولم يوجد له مال، هل يتبع دينا بما أخذ، أو يسقط عنه كما يسقط عن السارق؟ والمسلم والذمي في ذلك سواء.
الحادية عشرة: وجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب، فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة، فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شي، ولا يجوز عفو ولي الدم، والقائم بذلك الامام، جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود الله تعالى.
قلت: فهذه جملة من أحكام المحاربين جمعنا غررها، واجتلبنا دررها، ومن أغرب ما قيل في تفسيرها وهي: الثانية عشرة: وتفسير مجاهد لها، قال مجاهد: المراد بالمحاربة في هذه الآية الزنى والسرقة، وليس بصحيح، فإن الله سبحانه بين في كتابه وعلى لسان نبيه أن السارق تقطع يده، وأن الزاني يجلد ويغرب إن كان بكرا، ويرجم إن كان ثيبا محصنا. وأحكام المحارب في هذه الآية مخالف لذلك، اللهم إلا أن يريد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصدا للغلبة على الفروج، فهذا أفحش المحاربة، وأقبح من أخذ الأموال وقد دخل في معنى قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً}.
الثالثة عشرة: قال علماؤنا: ويناشد اللص بالله تعالى، فإن كف ترك وإن أبى قوتل، فإن أنت قتلته فشر قتيل ودمه هدر. روى النسائي عن أبي هريرة أن رجلا جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله أرأيت إن عدي على مالي؟ قال: «فانشد بالله» قال: فإن أبوا علي. قال: «فانشد بالله» قال: فإن أبوا علي قال: «فانشد بالله» قال: فإن أبوا علي قال: «فقاتل فإن قتلت ففي الجنة وإن قتلت ففي النار» وأخرجه البخاري ومسلم- وليس فيه ذكر المناشدة- عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه مالك» قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «فقاتله» قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد» قال: فإن قتلته؟ قال: «هو في النار». قال ابن المنذر: وروينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم، هذا مذهب ابن عمر والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان، وبهذا يقول عوام أهل العلم: إن للرجل أن يقاتل عن نفسه وأهله وماله إذا أريد ظلما، للاخبار التي جاءت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يخص وقتا دون وقت، ولا حالا دون حال إلا السلطان، فإن جماعة أهل الحديث كالمجتمعين على أن من لم يمكنه أن يمنع عن نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته أنه لا يحاربه ولا يخرج عليه، للاخبار الدالة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التي فيها الامر بالصبر على ما يكون منهم، من الجور والظلم، وترك قتالهم والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة.
قلت: وقد اختلف مذهبنا إذا طلب الشيء الخفيف كالثوب والطعام هل يعطونه أو يقاتلون؟ وهذا الخلاف مبني على أصل، وهو هل الامر بقتالهم لأنه تغيير منكر أو هو من باب دفع الضرر؟ وعلى هذا أيضا ينبني الخلاف في دعوتهم قبل القتال. والله أعلم.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: {ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا} لشناعة المحاربة وعظم ضررها، وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر، لأن فيها سد سبيل الكسب على الناس، لأن أكثر المكاسب وأعظمها التجارات، وركنها وعمادها الضرب في الأرض، كما قال عز وجل: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] فإذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر، واحتاجوا إلى لزوم البيوت، فانسد باب التجارة عليهم، وانقطعت أكسابهم، فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلظة، وذلك الخزي في الدنيا ردعا لهم عن سوء فعلهم، وفتحا لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أرادها منهم، ووعد فيها بالعذاب العظيم في الآخرة. وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي، ومستثناة من حديث عبادة في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة» والله أعلم. ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره. ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب، ثم يخرج إما بالشفاعة وإما بالقبضة، ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة كقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} [النساء: 116] أما إن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وكبر المعصية.
الخامسة عشرة: قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} استثنى عز وجل التائبين قبل أن يقدر عليهم، وأخبر بسقوط حقه عنهم بقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. أما القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط. ومن تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع، وتقام الحدود عليه كما تقدم. وللشافعي قول أنه يسقط كل حد بالتوبة، والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق الآدمي قصاصا كان أو غيره فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه.
وقيل: أراد بالاستثناء المشرك إذا تاب وآمن قبل القدرة عليه فإنه تسقط عنه الحدود، وهذا ضعيف، لأنه إن آمن بعد القدرة عليه لم يقتل أيضا بالإجماع.
وقيل: إنما لا يسقط الحد عن المحاربين بعد القدرة عليهم- والله أعلم- لأنهم متهمون بالكذب في توبتهم والتصنع فيها إذا نالتهم يد الامام، أو لأنه لما قدر عليهم صاروا بمعرض أن ينكل بهم فلم تقبل توبتهم، كالمتلبس بالعذاب من الأمم قبلنا، أو من صار إلى حال الغرغرة فتاب، فأما إذا تقدمت توبتهم القدرة عليهم، فلا تهمة وهي نافعة على ما يأتي بيانه في سورة يونس، فأما الشراب والزناة والسراق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الامام فلا ينبغي له أن يحدهم، وإن رفعوا إليه فقالوا تبنا لم يتركوا، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا. والله أعلم.